٢٠٠٤/٠٦/٢٩

 

مقدمـة – النظم السياسية المختلفة في العراق عبر العصور



هناك الكثير من الدلائل التي تشير الى ان أرض العراق وما يجاورها هي المنطقة التي بدأ فيها الإنسان بتكوين بوادر الحياة المدنية بعد انحسار العصر الجليدي الأخير.
وظهرت الحضارة بمفهومنا الحالي اليها لأول مرة في بلاد سومر في جنوب العراق حيث ادت زيادة الكفاءة الزراعية الى تفرغ قسم من الناس لاعمال ومصالح اخرى وتأسيس المدن وظهور المدينة-الدولة.
وبدأ الملك كممثل للمعبد وظل يدين بالولاء الاسمي للمعبد حتى بعد طغيان سلطته ونفوذه على سلطة ونفوذ المعبد.

والدول التي ظهرت خلال فترة الحضارة السومرية وأعقبتها اغلبها من تكوين السلالات الساميّة التي يبدو ان بداياتها عبارة عن هجرة الأقوام السامية ذات التكوين القبلي البدوي الى المناطق المحيطة بالحضارة ثم تواطنها معها خلال فترات طويلة من المناوشات اعقبها استيعاب الحضارة لتلك الاقوام او استيعاب تلك الأقوام للحضارة لتبدأ سلسلة طويلة من الممالك والحضارات الاكدية والعمورية والاشورية التي امتدت اكثر من الفي عام . ومن ابرزها سلالة سرجون الأكدي الذي هو اول من وحّد العراق بشكله الحالي قبل أربعة الآف وأربعمائة عام . (ثم يأتي في الزمن المعاصر من يقول ان العراق جرى تكوينه من الولايات العثمانية الثلاث الموصل وبغداد والبصرة).

والصورة هي دائما ذاتها . فترة من الازدهار والترقي يبدؤها احد الأفذاذ او المغامرين ويؤسس سلالة وراثية تزدهر لفترة من الزمن وقد يبرز من اعضائها بعض ذوي القدرات ولكنها كانت بالنتيجة تضمحل بسبب الكثير من العوامل لتسود فترات من الفوضى والاضطراب تكون فيه فرق اخرى في الداخل او الخارج مستعدة للانقضاض عليها لتعود الدورة من جديد.

ان المثير للانتباه في تأريخ العراق القديم هو كثرة هذه الدورات وكثرة عدد مرات النهوض الى حضارات بزّت بسمو ارتقائها ما هو موجود في العالم باستثناء مصر ، والاصرار الغريب للحضارة العراقية على ان لا تموت.

وآخر فترة اضمحلال بدأت قبل العصر الميلادي ببضعة قرون بتدهور ثم سقوط بابل وآشور ودخول الفرس ثم المقدونيون فالفرس مرة اخرى.

ولم ينهض العراق لفترة 800 سنة اخرى الا بعد الفتح الاسلامي الذي انتقل مركز الخلافة فيه من العراق بسرعة الى الشام ثم عاد مع العصر العباسي الذي لم يختلف بشئ عن الدورات القديمة من ناحية الجوهر او تأسيس السلالة الوراثية من قبل احد الافذاذ وظهور مقتدرين ضمن السلالة ثم اندثارها لتغزوها الاقوام الاخرى.

ومما يلاحظ خلال كل ذلك التأريخ ان الشرعية التي استند اليها الحكام بعد الوصول الى الحكم كان أساسها دائما دينيا. ولم يتغير ذلك من السومريين الى الأكديين والبابليين والاشوريين. وقد بلغ هذا العامل من القوة ان بابل أُعفيت مرارا من التدمير من قبل أعدائها المحتلين لموقعها الديني الخاص. لقد بقي جميع ملوك بابل يمثلون الآلهة في طقس الزواج الديني كل عام على مر العصور.

وادعاء الشرعية الدينية موثق خلال العصر العباسي ايضاً. ولقد بقي ادعاء الخلافة حتى من قبل الاقوام الاجنبية التي وردت الى العراق وتمسك بها الحكام العثمانيون الى اواخر عهدهم.وحتى في العراق الحديث فان من المبررات المهمة لاختيار الملك فيصل الأول التي قدمت للشعب هي نسبه النبوي.

وهذا الحال ليس خاصا بالعراق ، فتاريخ الفراعنة مشابه في هذا الاتجاه وكذلك تأريخ الصين واليابان. وفي احيان كثيرة اصبح الحاكم هو الإله (او ظله او الحاكم باسمه او ابنه !) وهذا الفرق مهم فالحاكم في العراق كان في أغلب الأحيان خادماً أميناً للإله.

اما في اوربا فلم يحصل العزل بين الدولة والشرعية الدينية الا منذ فترة ليست بعيدة نسبيا. ففي فرنسا لم يحصل ذلك الا عند قيام ثورة قام بها الشعب في نهاية القرن الثامن عشر. وفي انكلترا تطلب الامر انقلابا من قبل الملك للتخلص من هيمنة كنيسة خارجية ولم يتسن له الا العودة الى الشرعية الدينية وانشاء كنيسة جديدة ! ولحد اليوم فان الملك في بريطانيا هو الرئيس الاعلى لكنيسة انكلترا.

والسؤال هو لماذا كل هذا الاصرار لدى كل النظم وعبر الآف السنين على الحصول على الشرعية الدينية ؟ هل ان مصدره ورع الحكام ؟ ان الكثير من الدلائل تشير الى ان الكثير منهم لم يكن لهم حتى القليل من الورع الديني. لماذا اذاً ؟

والجواب هو ان ذلك لاقناع المؤسسات الدينية والحاكمة بشرعيتهم. والاهم من ذلك اقناع مصدر سلطة هذه المؤسسات وهو الشعب المحكوم ، لأن الايمان الديني بطبيعته يلتزم من قبل عامة الناس. والناس يشعرون عادة بقوة تجاه معتقداتهم الدينية. وسعي الحاكمين وراء هذه الشرعية لايمكن ان يعني الا ترضية السواد. الأمر الذي يؤدي الى الاستنتاج ان الشرعية كان دائما مرجعها الشعب وان لم يجر الاعتراف بذلك.

واذا عدنا الى تأريخ النظم السياسية في العراق نجد العراق وبعد 700 سنة اخرى من التدهور والاحتلال تحت احتلال جديد من قبل بريطانيا اعقبه نظام ملكي وراثي دستوري وديمقراطية برلمانية ابتدأت بالانتخاب غير المباشر ثم تحولت الى الانتخاب المباشر وتحت الوصاية او الانتداب ثم النفوذ البريطاني.

وامتدت هذه الحقبة الى عام 1958 وقد تخللتها فترتان مهمتان هما عبارة عن انقلابين عسكريين ضمن نفس النظام والدستور هما انقلاب بكر صدقي وثورة 1941 .

ثم في عام 1958 انتقل النظام الى الثوريةالتي بدأت بانقلاب عسكري تبنّى "الشرعية الثورية" ثم تحول الى الدكتاتورية الفردية.

ان هذا السرد السريع لايمكن ان يعكس الاضطراب والخراب والدمار والدماء والمعاناة التي صاحبت كل تلك التغيرات على مر التأريخ.

وان دروس التأريخ لم تصل بعد الى مرحلة العلوم الطبيعية في ايجاد القوانين وتوقع الاحداث ولكن يمكن ان نستخلص من السرد السالف مايلي:

• لانجد اثرا للديمقراطية في جميع الفترات التي نهضت فيها او التي خمدت فيها الحضارة في العراق.
• اما في جذور الهجرات التي سبقت الاندماج الحضاري فنجد البداوة التي فيها نوع من الديمقراطية البدائية.
• ان احترام دين الشعب هو الصفة الثابتة لكل تلك الاحقاب.
• ان اساس الشرعية المسلم به عبر كل العصور هو الشعب الذي يجارى في دينه حتى من قبل اعتى الطغاة.



Comments: إرسال تعليق

<< Home

This page is powered by Blogger. Isn't yours?