٢٠٠٤/٠٦/٢٩

 

النظم الديمقراطية



ان الديمقراطية ، كنظام سياسي ، غريبة عن مجتمعاتنا المتحضرة وجذورها لا تتعدى اثينا وروما ويكاد يخلو تراثنا التاريخى والفكري من تجاربها . ان حضاراتنا كانت دوماً متأثرة بالجذور القبلية لتلك الحضارات . وحتى الحضارة الاسلامية التي هي اعظم ما وصلت اليه هذه الأمة لم تستطع تغيير ذلك . والدليل هو شبه الفوضى حول موضوع الخلافة والذي انتهت فيه الامور الى الوراثة القبلية .

ان اساس الحكم في النظام القبلي هو السلطة المركزية ( التي غالباً ماتكون وراثية ) والديمقراطية البدائية المتمثلة بالتشاور .

اما بالنسبة للديمقراطية في العصر الحديث فان تجربتها في عدد غير قليل من الدول قد ابرزت ما لا يستهان به من العيوب . ومن الانتقادات الكثيرة التي توجه الى الديمقراطية :

• ان نسبة كبيرة من الناخبين "جهلة" لايعرفون صالحهم ولايجوز منحهم قرار تحديد سياسة الدولة وان التساوي في "القوة الانتخابية " بين الناخبين هو امر غير منصف ، فهل يمنح الشخص المتخلف الذي يعيش اليوم بعقلية القرون الغابرة والذي لا يعرف حتى القراءة والكتابة نفس الصوت والقدرة مثل الاستاذ الجامعي المتنور او القاضي الحكيم ؟
• في جميع المجتمعات وعلى مر العصور فان "النخبة" التي يجب ان تقود المجتمع هي "أقلية" انتخابية . والديمقراطية تؤدي الى سيادة مفاهيم الرعاع على المجتمع .
• ان اساس الديمقراطية هو عقلية القطيع التي تمنح الغلبة للكثرة وتؤدي الى اضطهاد الاقليات .
• وفي المجتمعات الحديثة نرى ان الاولويات في الانتخابات نادراً ما تكون صحيحة . ومن الامثلة على ذلك اندحار شخصيات مثل تشرتشل وديغول ، والشؤون التي تعتبر مهمة في الانتخابات الامريكية .
• ان القيادة غالباً ماتكون بيد فـئة طبيعتها القدرة على تحريك البسطاء وبهرجة الامور وكيل الوعود والادعاء بما لا يملكون من صفات حميدة (انظر استطلاعات رأي الناس في السياسيين في الدول الديمقراطية الحديثة) . ان الذين لهم القدرة على "تسويق" انفسهم لايكونون عادةً من النوع الرصين والوقور والعميق . اذاً فان نوع القادة الذين تفرزهم العملية الانتخابية هم ليسوا من النوع المطلوب . كما ان مغريات السلطة والسهولة النسبية في الوصول اليها ( بدون مجازفة شخصية تذكر ) بالنسبة لذوي الطموح او الثروات تؤدي الى الكثير من المناورات السياسية (والوضيعة احياناً) . وان الديمقراطية بطبيعتها تؤدي الى ساسة "مرنين" اكثر مما هو مطلوب وغير مبدئيين يحاولون ترضية القوى المختلفة المؤثرة في اعادة انتخابهم . أي ان الديمقراطية تمنح المتحذلقين وسيئي النية قدرة على السيطرة على جماهير من السذج .
• كثرة التقلبات السياسية في البلاد والتي تشمل عادةً جهاز الدولة .، فكل بضعة سنوات يتبدل الطاقم القيادي السياسي والوزراء الذين يغيّرون بدورهم الكادر القيادي الاداري في مؤسسات الدولة ، الامر الذي يضعف اجهزة الادارة في الدولة ويمنع استقرارها واستمر اريتها. بالاضافة الى الأزمات المزمنة عند وجود اكثر من حزبين في النظم البرلمانية ، والنتيجة هي حتماً أزمة وزارية تؤدي الى المؤامرات والتنازلات السياسية لافراز القيادة ( مثال تركيا وايطاليا في الوقت الحاضر ) .
• ثبت في كثير من النظم الديمقراطية الحديثة وجود تأثيرات مهمة من الاعلام ومن جهات تعمل في الخفاء ( ومثال ذلك تأثير المنظمات اليهودية والمؤسسة الصناعية – العسكرية في الولايات المتحدة )
• الصعوبة ، الصعوبة هي ان العقائديين يؤمنون احياناً بصلاحية مذهبهم الى الدرجة التي يضحون بارواحهم في سبيلها وبطبيعة الحال لايمكن لهؤلاء ان يكونوا ديمقراطيين او ان يقتنعوا ان من حق فـئة اخرى اكثر منهم عددا وتختلف معهم في المبدأ ان تمسك زمام الامور !

وفوق ذلك ..

فقد جربنا الديمقراطية في العراق الحديث لاكثر من ثلاثة عقود ورأينا سلبياتها الكثيرة ، ورأينا سهولة التأثير في العامة وفوز مرشحي الحكومة وبروز محترفي السياسة والانتفاعيين وكثرة الوزارات وكثرة عدد مرات حل المجلس النيابي من قبل الحكومة . ورأينا استمرار تأثير بريطانيا في الحكم رغم الاستقلال ورغم الديمقراطية .

وفي مجتمعنا اليوم ..

هناك التخلف . وهناك شرائح تعاني من تخلف يدعو الى العجب . وهناك من يعيش بعقلية عصور ما قبل التأريخ وما قبل الاديان وبعقلية لم تتأثر بالتطور الحضاري الذي ساهمت فيه الكثير من الشعوب على مدى الآف السنين .وهناك فئات من المجتمع راغبة طواعيةً في تسليم مقاديرها الى "قادة" محليين هم ليسوا اقل تخلفاً من السواد . وهناك من يمكن ان يمنح صوته مقابل وليمة ! وأن الثروة في كل المجتمعات هي غالباً رخصة للبروز الاجتماعي حتى وان كانت جذورها تفتقر الى الشرعية .

وفي مقابل ذلك ..

ان حضارة اليوم هي حصيلة جهود كثير من الشعوب على مدى الآف من السنين وان مساهمة العراق والعراقيين فيها ليست بالقليلة . الامر الذي يلغي أي شعور بالنقص يمنع الاقتباس من تجارب الآخرين ويؤكد ان النظم التي هي حصيلة الحضارة البشرية لاتعتبر غريبة بقدر كبير .

ومما يمكن قوله عن النظم الديمقراطية :

• ان الديمقراطية لاتعني اتخاذ القرارات من قبل الناخبين في الشؤون السياسية او المالية او القانونية التفصيلية . وانما تمنحهم حق تخويل من يتخذ تلك القرارات عنهم وحق عزلهم .
• هناك أميون لم يتعلموا القراءة والكتابة من الرجال والنساء يتمتعون بقدر وفير من الحصافة ورجاحة العقل او الذكاء الفطري العالي . وكثيراً ما نجد هؤلاء ، وخصوصاً بعد بلوغ سن معينة ، يتمتعون بكثير من الاحترام في مجتمعاتهم المحلية . الا يعني ذلك ان الناخبين السالف ذكرهم قد تكون لهم القدرة على تشخيص من يستحق التقدير او على إنصاف "النخبة" في محيطهم المحلي ؟
• ان الديمقراطية لابد وان تضم مجالساً للنقاش والمحاججة . واذا كانت هذه المجالس علنية ومفتوحة فان ذلك يشكل صماماً للامان في اتخاذ القرارات الخطيرة .
• ان تلك المجالس هي ايضاً مؤسسات لابراز ذوي المواهب ولإتاحة تسلقهم بدون عنف او دماء .
• من الامور المهمة التي تتيحها الديمقراطية هي القدرة على تغيير الحكم بدون عنف او فوضى .
• ان التأريخ الحديث يؤكد ان النظم الديمقراطية أضمن لحقوق الفرد في الحرية والكرامة .
• وكذلك فانها عادةً ماتؤدي الى زيادة قوة المجتمع والدولة .
• هناك نوع من الرقابة المستمرة على القرارات وعلى توجيه استغلال ثروات البلاد وعلى ماسكي السلطة .

وفوق ذلك ..

فان التجربة الديمقراطية في العراق الحديث قد فعلت الكثير لتطوير هذا البلد وتوجيه استغلال ثرواته رغم التدخل المباشر وشبه الهيمنة البريطانية على السياسة. وقد ابرزت ساسة اكفاء وشخصيات وطنية كثيرة وكانت الناس تسمع صوت المعارضين في كثير من الاحيان.

هل كانت هذه التجربة بتلك الدرجة من السوء التي صورت بها فيما بعد ؟ وهل هي اسوء بكثير من نظم الانقلابات العسكرية والشرعية الثورية التي اعقبتها ؟

ونحن اليوم في العراق نشترك في بلد واحد ، ومع ذلك فنحن مجتمع غير متجانس . فهناك المدني المتحضر وهناك المدني الريفي الخلفية او العقلية وهناك ابن الريف وهناك ابن البادية وهناك غير المتديّن والمتدين والمتديّن المتعصب وهناك السني والشيعي والمسلم والمسيحي وهناك العربي والكردي والاثوري والتركماني والارمني . وهناك قوى كثيرة تعمل في السر والعلانية على تقسيم هذا البلد .
ونحن ايضاً نعيش في عالم غير متجانس اصبحت فيه الشعوب غير المتجانسة على اتصال وتماس . فقبل مائة عام لم يكن يعنينا شئ من طبيعة المجتمع الصيني او الامريكي او البرازيلي او غيرها الا فيما ندر . اما اليوم فقد فتحت المواصلات والاتصالات والسياسة والتجارة الدولية وتلوث البيئة والحاسبات والنفط باب الاحتكاك بين كل هذه الاجناس .

والسؤال هو ما هو المبدأ الذي يسمح للفئات والشعوب غير المتجانسة بالتعامل مع بعضها البعض والتعايش بسلام ؟

ان الحل هو في تقبل اختلافنا عن الآخرين والقدرة على التعايش معهم لا فرض نظرتنا ورفض اية نظرة اخرى للحياة .

والخلاصة من الناحية العملية ، وفي ظروف العراق اليوم ..
اذا نظرنا الى النظم السياسية المختلفة نجد ان الصورة تدعو للكآبة وتكاد ان تكون مثبطة للعزيمة ، فكل النظم تعاني من قصورات قوية وهي بعيدة عما يتمناه المرء للنظام الذي يود ان يعيش بظله . وأحد البدائل هو ترك الحياة لتأخذ مجراها بالتناحر والثورات والانقلابات . والبديل الافضل هو اخذ احسن ماهو موجود من هذه الانظمة ومحاولة ازالة ما يمكن من عيوبه الثابتة للوصول الى حالة افضل.

من السرد السابق يبدو واضحاً ان النظام الذي يسمح لفئات غير متجانسة ان تعيش بسلام معاً في دولة واحدة ويسمح لدول غير متجانسة ان تعيش بسلام على كوكب واحد والذي يسمح باجراء التغييرات بدون سفك للدماء وبدون الكثير من الفوضى والاضطراب والذي ثبت نجاحه عملياً في تطوير الدول التي اتبعته وحافظ اكثر من غيره على حقوق افرادها هو النظام الديمقراطي . وهذه مزايا عظيمة الاهمية .

ان بعض عيوب هذا النظام السالف ذكرها يمكن معالجتها عند تصميم النظام وبالاستفادة من تجارب الشعوب الاخرى .

• ان مبدأ عزل جهاز الادارة عن السياسة واعتماد جهاز اداري مهني محترف يعمل تحت توجيه سلطة تنفيذية منتخبة يؤدي الى تقليص الاثر السلبي للتقلبات السياسية على الجهاز الاداري الذي من واجبه تسيير شؤون الحياة التفصيلية للمجتمع في زمن معقد . والجيش هو احدى هذه المؤسسات . وواجب هذا الجهاز هو حمل السلاح والدفاع بمهنية واحتراف عن البلاد بكل مكوناتها لا عن معتقد معين .
• ان اعتماد مبدأ فصل انتخاب السلطة التنفيذية عن انتخاب السلطة التشريعية والذي يقوم فيه رأس الدولة المنتخب باختيار الوزراء والكادر السياسي المتقدم تحت رقابة وموافقة السلطة التشريعية يقلص حدوث الازمات الوزارية .
• ان رقابة المجلس المنتخب ليمثل السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية مع عدم منح السلطة التنفيذية او اية سلطة اخرى صلاحية حل المجلس المنتخب ( كما كان يحصل في العراق ) يزيل بعض التجاوزات التي كانت تصحب العملية الديمقراطية .
• ان ضمان حرية النقاش وطرح الآراء وخصوصاً على المستوى الفكري يتيح "للنخبة" الرائدة طرح افكارها القائدة وبلورتها بهدوء لتتمكن مستقبلاً من الوصول الى عامة الناس بعد نضجها او ثبات جدواها وكسبهم باتجاه اعتمادها وتضمن عدم تهميش النخبة والهيمنة عليها من قبل "الاكثرية" . ان كثيرا من معتقدات العامة اليوم هي حصيلة طروحات النخبة قديماً .
• ان ضمان ما يتفق على انه حقوق اساسية للانسان في هذا المجتمع بالدستور الثابت يضمن ان لا تُضطهد الأقليات العقائدية ( السياسية والدينية) والطوائف والاقليات العرقية من قبل الاكثرية
• ولاشك ان اعتماد مبدأ اللامركزية والحكم المحلي يساهم في معيشة الشرائح غير المتجانسة جغرافياً بسلام مع بعضها البعض ويضمن للاقليات حيزاً من القول في امور التعليم والصحة والقضايا المحلية الاخرى .
• ومن الضروري حماية العملية الديمقراطية من التأثيرات غير الديمقراطية سواء من اجهزة الاعلام او من المؤسسات الكبيرة ذات المصالح الداخلية والخارجية التي تعمل في الخفاء . ان تلك القوى ، التي تلعب اليوم دوراً مؤثراً في اوربا الغربية والولايات المتحدة ، تعتمد بالدرجة الرئيسية على مصدرين للقوة : تملّك وسائل الاعلام والاموال التي تستغل في تمويل العمليات الانتخابية .




Comments: إرسال تعليق

<< Home

This page is powered by Blogger. Isn't yours?