٢٠٠٤/٠٦/٢٨

 

الجيـش والديمقراطيـة والمرحلـة الانتقاليـة



ان الجيش مؤسسة قائمة على اساس الدفاع عن الوطن بالسلاح .

وفي زمن متطور مثل هذا العصر الذي نعيش فيه يتطلب تحقيق هذا الهدف تخصصاً تقنياً عالياً في الخبرات وفي المهام لذا فان من الضروري ان يكون منتسبو أي جيش حديث مهنيين محترفين . وان الترقي في الرتب وفي مسؤوليات اتخاذ القرار يجب ان يكون على اساس التدريب العلمي في العلوم العسكرية وتراكم الخبرة العلمية والعملية العسكرية والادارية . ومن الطبيعي في حال مثل هذه ان القرارات العسكرية الفنية والقتالية يجب ان يقوم بها عسكريون محترفون .
ولكننا نرى ان هذه المبادئ الاساسية قد ضربت عرض الحائط خلال العقود الماضية ومن اكثر من ناحية .

ان من افدح الاضرار التي وقعت على الجيش العراقي هو زجه في العقائد السياسية .
ان اساس تكوين الجيش هو الدفاع عن الوطن . وهو السبب الرئيسي الذي يدفع الشباب الى الالتحاق به . والدفاع عن الوطن يجب ان يكون هو العقيدة التي يبنى عليها الجيش . وان "الجيش العقائدي" ( بمعنى العقيدة السياسية ) هي احدى الاعيب الدكتاتورية التي لاترتضي المناقشة او الحوار او المنافسة في القضايا السياسية . وهي لاتعدو كونها وسيلة للسيطرة على الجيش . فليس هناك شاهد واحد في التأريخ القديم او الحديث على جيش اختار عقيدة سياسية وكان باستطاعته تغيير تلك العقيدة بدون ان تسال دماء ابناء الوطن .
واوضح الامثلة على السيطرة السياسية على الجيش هي الانظمة الشيوعية التي استطاعت حكم دول مختلفة في التأريخ الحديث منذ بداية هذا القرن مثل الاتحاد السوفييتي واوربا الشرقية والصين . وكلها وبدون استثناء أسست جيوشاً عقائدية تبدأ بقطع رؤوس قادة الجيش الذين يعارضون ، او هناك شك في ولائهم ، "للعقيدة" الرسمية . ومن ثم يطلب الى جميع منتسبي الجيش الايمان بتلك العقيدة . ويصبح ذلك الايمان شرطاً اساسياً للدخول الى الجيش والبقاء فيه مع اشتراط تقديم الدليل الدائم وباستمرار وباذلال على صدق ايمانهم . واخيراً ، تتغلغل عناصر العقيدة السياسية الى مراكز "توجيهية" في الجيش لتكون "انضباطاً" سياسياً عليه .
وينتهي الامر بالجيش الى اطاعة السلطة المدنية بالاضافة الى عقيدتها .

ويصل الامر الى فرض تسلسل اولويات جديد على الجيش : الدفاع عن العقيدة اولاً ثم الوطن .

ومتتبعو تواريخ الجيوش يعلمون بكثرة الحالات التي أزيح او اعدم فيها ضباط اكفاء ووطنيون مخلصون في مختلف الجيوش عند تصادمهم مع هذا التسلسل للولاءات . ( وفي الدستور "الدائم" الذي طرح بعد انتهاء الحرب مع ايران ، تنص المادة 59 على مايلي :- " يحظر على غير حزب البعث العربي الاشتراكي العمـل السياسي او الحزبي في القوات المسلحة وقوى الامن الداخلي ، ومع منتسبيها " ) .
أي ان الجيش يصبح تنظيماً حزبياً لحزب عسكري التنظيم . والحزب بدوره آلة بيد سلطة مركزية دكتاتورية .
ولضرورة السيطرة على الجيش فعادةً ماتبرز ظاهرة فرض اشخاص مضموني الولاء سياسياً على الجيش وفي مراكز قيادية رغم انهم أميين عسكرياً وعادةً ماتتخذ القرارات العسكرية البحتة من قبل جهات اقل مايمكن ان يقال عنها انها غير كفوءة عسكرياً . ان منح الرتب العسكرية العليا جزافاً وببضعة اسطر من مرسوم لابد ان تكون من الامور التي تحز في نفس كل عسكري محترف ومخلص لمهنته ، ففي ذلك "استباحة" للمؤسسة العسكرية .
يمكن الاستنتاج من ذلك ان فرض "العقائدية السياسية" الواحدة على مؤسسات الجيش فيه إضرار للجيش ولتنظيمه الداخلي ولكفاءته القتالية وفرض لارادة خارجية غير محترفة او متدربة على بناء مؤسساته وعلى اولوياته في الدفاع عن الوطن والتي تكون الجيش من اجلها اساساً .

ان ما جرى للجيش العراقي خلال العقود الخمسة الماضية كان ادهى من ذلك .
ففي عام 1958 قفزت فئة قليلة الى السلطة باستخدام سلاح الجيش ثم سمحت للغوغائيين وحملة حبال السحل والمقاومة الشعبية باذلال الكثير من ضباط الجيش ومؤسساته وحولت بعض معسكراته الى سجون سياسية جرى فيه التعذيب العشوائي ومهازل اخرى لايرضى بها الشرف العسكري .
ثم في عام 1963 قفزت فئة عقائدية اخرى الى السلطة وباستغلال الجيش ايضاً ثم سلطت الحرس القومي على الشعب والجيش واشبعتهما اذلالاً .
ثم استلم السلطة "عسكريون" على رأسهم عبد السلام عارف ثم عبد الرحمن عارف اللذان كانا يشتركان في افتقارهما للكفاءة والعمق والمهارة السياسية . ولكن الحكم كان باسم الجيش وبسلاحه .
ثم اتى النظام الاخير الذي بسط سيطرته على الجيش بكفاءة عالية بحجة العقائدية السياسية والحزبية ولكنه اشبع الجيش كمؤسسة وكأفراد تحقيراً وقتلاً وإذلالاً . ولو اردنا التفصيل لاغرقتنا التفاصيل في هذا الموضع . ولكن الكثير من الاضرار التي وقعت على الجيش لابد وان تكون محفورة في ضمائر كل العسكريين الشرفاء ولابد ان يوثقها التأريخ في وقت من الاوقات .

الخلاصة هي ان الجيش كمؤسسة اصابتها الكثير من الاضرار وتعرض للاهانة باستمرار خلال الفترات التي كان النظام فيها يحسب على انه عسكري او شبه عسكري او عقائدي . ان الذي كان يحكم خلال تلك الحقب هم افراد قفزوا الى السلطة باسم الجيش او بسلاحه ثم سيطروا على الجيش وأذلوه اثناء ماكانوا يحتفلون بعيد تأسيسه سنوياً باهتمام بالغ .

فإذا كان الاتجاه نحو الديمقراطية وفرض سلطة الشعب ، وإذا تم منح النقابات المهنية حق ترشيح شخصيات لرئاسة الجمهورية ، فإن من المعقول القول بأن الضباط في الجيش هم ايضاً حملة شهادة البكلوريوس في العلوم العسكرية كحد ادنى ومن العدل منحهم حقاً مشابهاً .

المشكلة هي ان الديمقراطية والجيش لايمكن ان يتعايشان ضمن التنظيم الداخلي لأي جيش نظامي كان . وهذا طبيعي . وهو من طبيعة كل الجيوش النظامية عبر كل العصور . ان سياق العمل وخصوصاً اثناء العمليات العسكرية هو عن طريق سلسلة ثابتة ومعرفة مسبقاً للاوامر . وان العسكري المحترف ينشأ وتترسخ فيه القدرة على اعطاء الاوامر وإطاعة الاوامر بنفس السهولة . والا لما امكن للجيوش ان تحارب بكفاءة . كما ان تسلسل الرتب او "القِدَم" في الجيش هي من الامور شبه المقدسة بسبب تلك الاعتبارات .

نعم ، ان الكثير من النقاش يجري في داخل أي جيش وهناك المجال الكثير للتعبير عن الآراء في القضايا التنظيمية ولكن ذلك ايضاً ضمن حدود ثابتة وصلبة يعرفها العسكريون . فلذلك فليس من السهل ( وربما ليس من الصحيح ايضاً ) اجراء اجتماعات ومناقشات حول ترشيحات مختلفة لمنصب رئيس الجمهورية مثلما هو الامر بالنسبة للنقابات او للجامعات . ان كثيراً من اساتذة الجامعات الكبار لايجدون غضاضة في ان يقترعوا الى جانب مدرسين مساعدين شباب . ولكن من الصعوبة بمكان ان يتقبل اللواء او الفريق الركن العسكري المحترف ان يقترع الى جانب ضباط برتبة ملازم او نقيب . فلكلٍ خصوصية تفرضها طبيعة عمله ومهنته .
ومن ناحية اخرى فإنه حتى ان امكن اجراء نوع من الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية من قبل الجيش كمؤسسة ، فإن ذلك يعني ضمنياً التزاماً من الناحية الاعتبارية على الاقل لذلك المرشح واستعداداً للدفاع عنه . والدفاع في المنظور العسكري يعني السلاح . وهذا يعارض ويتناقض مع المفهوم الديمقراطي . فالمطلوب ضمن هذا النظام ان يطيع الجيش رئيس الجمهورية الذي يختاره الشعب أياً كان .

ان من مصلحة الجيش ان يكون القائد العام للقوات المسلحة شخصية رصينة يختارها المجتمع ككل ومن ضمنهم منتسبو الجيش كافراد وان يقود تحت مراقبة ممثلي الشعب في المجلس الوطني ومجلس الحكم المحلي وتحت رقابة سلطة قضائية رصينة ومستقلة .

وان من مصلحة الجيش ومن مصلحة العسكري المحترف ان يعيش في مجتمع تتخذ فيه القرارات التي تتعلق بالمجتمع وبالجيش ( ومن ضمنها القرارات التي قد تزجه في معارك ) من قبل جهات شرعية وان تتخذ تلك القرارات بصورة عقلانية وكفوءة .

وان من مصلحة العسكري ان يعمل ضمن مؤسسة مهنية محترفة يتسلق فيها الاكفأ بموجب جدارته ومثابرته المناصب العسكرية وان يكون الارتقاء بموجب هذه الاسس لا بموجب الولاء السياسي او القبلي .

وان من مصلحة العسكري المحترف ان يعمل ضمن مؤسسة هدفها الدفاع عن الوطن لا عن فلان او علان من الناس . فهو بذلك يحقق الهدف الاساس من اختياره العسكرية كحياة وكحرفة .

وان المجتمع لابد ان ينظر بعين الاحترام للشخص الذي ينذر نفسه ويعرض حياته للخطر للدفاع عن الوطن حتى وان كان النظام "غير عسكري" . بل بالعكس ، فإن المجتمع قد ينظر للعسكري في النظام الذي يهيمن فيه الجيش على السياسة بنظرة ادنى .

ومن مصلحة الجيش ان يعمل ضمن نظام يمكن فيه محاسبة كل من يزجّه في معركة بدون مبررات معقولة تؤدي الى استشهاد الكثيرين من شجعانه ، او في معركة غير متكافئة تؤدي الى هرب الضباط والجنود مشياً على اقدام حافية وهم جوعى ثم يدعي الانتصار . وينصب نفسه قائداً عسكرياً ملهماً يلقي عليهم المحاضرات في الشؤون العسكرية .

وان من مصلحة العسكري ان يعيش في مجتمع مستقر ومرفه برخاء يتوفر فيه له السكن والدخل اللائق لمعيشته ومعيشة عائلته بكرامة ومن حق عمله وليس عن طريق "مكرمة" يمنحها اليه المتكرمون ومن خزينة الدولة .





Comments: إرسال تعليق

<< Home

This page is powered by Blogger. Isn't yours?